الرئيسة   »   مؤلفات الشيخ   »   ضوابط التكفير والتحذير من التسرع فيه   »   بيان أن الله تعالىٰ لا يؤاخذ إلا بعد بيان ولا يعاقب إلا بعد إنذار

(أضيف بتاريخ: 2021/10/29)

بيانات الكتاب

بيان أن الله تعالىٰ لا يؤاخذ إلا بعد بيان  ولا يعاقب إلا بعد إنذار

بيان أن الله تعالىٰ لا يؤاخذ إلا بعد بيان ولا يعاقب إلا بعد إنذار

المؤلف:

فضيلة الشيخ محمد بن عبدالحميد حسونة $

الناشر:

لم يُطبع بعد!

حجم الكتاب:

صغير

عدد مرات القراءة:
قراءة

تحميل

( 696 KB )

قراءة

( 12 صفحة )
بيان أن الله تعالى لا يؤاخذ إلا بعد بيان
  • +  تكبـير الخط
  • -  تصغيـر الخط

بيان أن الله تعالىٰ لا يؤاخذ إلا بعد بيان
ولا يعاقب إلا بعد إنذار
وبيان أنها قاعدة مطردة على مر الأعصار والأمصار

من: أبي عبد الله محمد بن عبد الحميد……….. كان الله تعالىٰ له.

إلىٰ: أخيه………………………………… نفع الله تعالىٰ به.

سلام عليكم، وبعد:

اعلم أخي -رحمك الله تعالىٰ- أن من المسائل العظام والتي يترتب عليها جملة من الأحكام لا تقل خطورة عنها: مسألة العذر بالجهل، وعلىٰ الرغم مما ستقف عليه من كثرة الأدلة علىٰ اعتبار هذا الأصل؛ إلا أن البعض طرحه باختراع قواعد هشة لهدمه، فأقول:

يعتقد السادة السفليون -شرّفهم الله تعالىٰ ورفع أقدارهم-: أن من محاسن هذه الشريعة الغراء عموم العذر بالجهل للمخالفين في أصولها وفروعها، وهذا من تمام رحمة رب العالمين بهذه الأمة المرحومة.

وأما أدلة هذه المسألة فكثيرة وفيرة، نذكر منها:

قول الله تعالىٰ‏: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا‏ ﴾ [الإسراء:15]، وتحت هذه الآية جاءت أقوالهم ناطقة -بل صارخة- قاطعة بعموم العذر، وهاكموها:

قال الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه الله تعالىٰفي‏ «الفصل في الملل والأهواء والنحل‏» (4/105) و «الإحكام في أصول الأحكام‏» له ص(895):

‏‏«فنص تعالىٰ علىٰ أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته، لا من لم تبلغه، وأنه تعالىٰ لا يعذب أحدًا حتىٰ يأتيه رسول من عند الله عز وجل، فصح بذلك أنه من لم يبلغه الإسلام أصلًا فأنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص عن رسول الله ﷺ أنه يؤتي يوم القيامة بالشيخ الخرف والأصم ومن كان في الفترة والمجنون، فيقول المجنون: يارب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل، ويقول الخرف والأصم والذي في الفترة أشياء ذكرها، فيوقد لهم نار، ويقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها وجدها بردًا وسلامًا –انظر «السلسلة الصحيحة» للعلامة الألباني برقم(1434)-، وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فأنه معذور لا ملامة عليه‏».

وقال أيضا -رحمه الله تعالىٰ-‏: «فصح أنه لا عذاب علىٰ كافر أصلًا حتىٰ تبلغه نذارة الرسول ﷺ‏».

وقال الحافظ ابن كثير –رحمه الله تعالىٰ- في‏ «تفسير القرآن العظيم‏» (3/28)‏: ‏«إخبار عن عدله تعالىٰ، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسل إلىٰه‏».

وقال العلامة الآلوسي -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «روح المعاني‏» (15/338)‏: «حتىٰ نبعث إلىٰه رسولا يهدي إلىٰ الحق ويردع عن الضلال، ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع‏».

وقال العلامة الشنقيطي -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «أضواء البيان‏‏» (3/439)‏: «إن الله عز وجل لا يعذب أحدًا من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة حتىٰ يبعث إليهم رسولا ينذر ويحذر.

وفي‏ «الصحيحين‏» (البخاري (13/338) كتاب‏ التوحيد، ومسلم (10/132) كتاب‏ اللعان) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: ‏«لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل من أجل ذلك مدح نفسه. ولا أحد أحب إلىٰه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه‏».

وفي‏ «الصحيحين‏» أيضًا («صحيح الإمام البخاري‏» (7/517) كتاب المغازي و‏«صحيح الإمام مسلم‏» (2/99) كتاب الإيمان) عن أسامة بن زيد -رضي الله تعالىٰ عنه- قال: بعثنا رسول الله ﷺ في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته. قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح. قال: «أشققت عن قلبه حتىٰ تعلم أقالها أم لا؟!!» فما زال يكررها حتىٰ تمنيت أني أسلمت يومئذ‏».

وتحته: قال الحافظ -رحمه الله تعالىٰ-: «قال ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتىٰ لا يقوم أحد علىٰ قتل من تلفظ بالتوحيد، وتواتر عن رسول الله ﷺ أنه قال‏ «أمرت أن أقاتل الناس حتىٰ يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علىٰ الله تعالىٰ‏».

هذه رواية الإمام مسلم -(1/206) كتاب الإيمان- وزاد‏ الإمام البخاري‏: «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة‏» انظر روايات الحديث في «السلسلة الصحيحة» للعلامة الألباني برقم (407).

وروىٰ الإمام البخاري –(6/494) كتاب أحاديث الأنبياء- والإمام مسلم -(17/70) كتاب التوبة‏ «باب سعة رحمة الله، رحمهمها الله تعالىٰ- عن حذيفة -رضي الله تعالىٰ عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول‏: «أن رجلًا حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصىٰ أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرًا وأوقدوا فيه نارًا حتىٰ إذا أكلت لحمي وخلصت إلىٰ عظمي فامتحشت، فخذوها فاطحونها ثم انظروا يومًا راحًا فذروة في اليم، ففعلوا، فقال له: لما فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك. فغفر الله له‏» .

وتحته: قال الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «الفصل…‏» (3/205): «فهذا إنسان جهل إلىٰ أن مات أن الله عز وجل يقدر علىٰ جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله‏».

وفي تعليقه علىٰ هذا الحديث قال شيح الإسلام -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «مجموع الفتاوىٰ‏» (11/409)‏: «وكنت دائمًا أذكر هذا الحديث.. فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك‏».

وقال عنه في موضع آخر من‏ «مجموع الفتاوىٰ‏» (11/409)‏: «فهذا الرجل ظن أن الله تعالىٰ لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالىٰ، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت: كفر. لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلًا بذلك، ضالا في هذا الظن مخطئا، فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكًا في المعاد، وذلك كفر، إذا قامت حجة النبوة علىٰ منكره، حكم بكفره‏».

وفيه أيضًا قال خطيب أهل السنة أبو محمد ابن قتيبة $ في «تأويل مختلف الحديث‏» (136)‏: ‏«وهذا رجل مؤمن بالله مقرّ به خائف… إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذا أحرق وذري في الريح أنه يفوت الله تعالىٰ، فغفر الله تعالىٰ له بمعرفته ما بينته وبمخافته من عذابه، وجهله بهذه الصفة من صفاته‏».

وقال العلامة الوادعي -رحمه الله تعالىٰ- محدث الديار اليمنية في كتابه «فضائح ونصائح‏» ص(185): «فهذا دليل علىٰ أن الشخص يعذر بجهله‏».

ثم قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «مجموع الفتاوىٰ‏» (11/412-413): «ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه،

كما روىٰ مسلم في «صحيحه‏» عن عائشة -رضي الله تعالىٰ عنها- قالت: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله ﷺ؟ قلنا: بلي –وذكرت قصة استغفار النبي ﷺ لأهل البقيع... قالت: قلت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟. قال: نعم!

فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي -صلىٰ الله تعالىٰ عليه وآله وسلم- هل يعلم الله كل ما يكتم؟ فقال لها النبي ﷺ: نعم. وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شئ يكتمه الناس، كافرة. وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان‏».

وفي حديث أبي واقد الليثي، الحارث بن عوف -رضي الله تعالىٰ عنه- قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب -رحمهم الله تعالىٰ- في‏ «شرح كتاب التوحيد» ص(152)‏: ‏«فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنًا، وطلبوه من النبي ﷺ حتىٰ بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل ﴿ اِجْعَلْ لَنَا إِلَهًا ﴾ فكيف بغيرهم مع غلبة الجهل‏» انظر‏ «سعة رحمة رب العالمين…‏» للغباشي ص(51).

وعن عبد الله بي أبي أوفي قال: «لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي ﷺ…‏» رواه ابن ماجة وابن حبان وحسنه العلامة الألباني في الإرواء (7/56).

وقال العلامة الشوكاني $ في «نيل الأوطار‏» (6/210)‏: ‏«من سجد جاهلًا لغير الله لا يكفر‏».

وفي هذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالىٰ- مفتيًا في تقبيل بعض الناس الأرض، ورفع الرأس، ونحو ذلك مما في السجود، مما يفعل قدام الشيوخ والملوك، وبعد ذكره لحديث معاذ -رضي الله تعالىٰ عنه- السابق قال:

‏‏«لا يجوز… وأما فعل ذلك تدينًا وتقربًا فهذا من أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة وتدينًا فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصرّ علىٰ ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل…‏» انظر تفاصيل الفتوي في‏ «مجموع فتاوي شيخ الإسلام‏» (1/372).

وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالىٰ عنها- أن رسول الله ﷺ بعث أبا جهم بن خذيفة مصدقاً، فلاجه رجل في صدقته (أي: تمادى معه في الخصومة)، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي ﷺ فقالوا: القود… فخطب النبي ﷺ، فقال: إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا، فرضوا، أرضيتم؟ قالوا: لا! فهمّ المهاجرون بهم. فأمر النبي – صلىٰ الله تعالىٰ عليه وآله وسلم – أن يكفوا، فكفوا، ثم دعاهم فزادهم، وقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم‏».

وفي هذا قال الإمام أبو محمد بن حزم $ في «المحلي‏» (10/411-410):‏ «وفي هذا الخبر عذر الجاهل، وأنه لا يخرج من الإسلام بما لو فعله العالم الذي قامت عليه الحجة لكان كافرًا، لأن هؤلاء الليثيين كذّبوا النبي ﷺ، وتكذيبه كفر مجرد بلا خلاف؛ لكنهم بجهلهم وأعرابيتهم عذروا بالجهالة فلم يكفروا‏».

فصل: في ذكر طرف من أقوال السلف الصالح في الباب

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «الجواب الصريح…‏» (1/309): ‏«وهذا أصل لا بد من إثباته وهو أنه قد دلّت النصوص علىٰ أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه‏».

قال الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «الموافقات‏‏» (3/377):‏ «جرت سنته سبحانه في خلقه، أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم‏ ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29]، ولكل جزاء مثله‏».

قال مؤرخ الإسلام الحافظ شمس الدين الذهبي -رحمه الله تعالىٰ- في «سير أعلام النبلاء‏» (15/88): ‏‏«رأيت للأشعري كلمة أعجبتني، وهي ثابتة، رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في دار ببغداد، دعاني، فأتيته. فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدًا من أهل القبلة؛ لأن الكلّ يشيرون إلىٰ معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات‏».

قلت -الحافظ الذهبي-: وبنحو هذا الدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية $ في أواخر أيامه، يقول: أنا لا أكفر أحدًا من الأمة‏».

وقال شيخ الاسلام -رحمه الله تعالىٰ- في «مجموع الفتاوىٰ‏» (12/493)، (17/308)‏: «الكتاب والسنة قد دلّا علىٰ أن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذب رأساً، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا علىٰ إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية‏».

هذا.. وقد بوّب الإمام البخاري $ في «جامعه الصحيح‏» كتاب استنابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (12/269)‏ بابًا قال فيه: «باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، وقول الله تعالىٰ: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ﴾» [التوبة:115]، ومن المعلوم عند أهل العلم أن تراجم البخاري دالة علىٰ عظيم فقهه، وهو كذلك.

قال البدر العيني -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «عمدة القاري‏»(19/369): «أشار -البخاري- بهذه الآية الكريمة إلىٰ أن قتال الخوارج والملحدين لا يجب إلا بعد إقامة الحجة عليهم».

وقال العلامة الألباني -رحمه الله تعالىٰ‏-: «… أنت – أي: يا عبد الله عزام – من أعرف الناس بذلك، لأنك تتابع جلساتي، لا نكفر إنسانًا ولوقع في الكفر إلا بعد إقامة الحجة‏» انظر‏ «الطريق للجماعة الأم‏» لعثمان بن عبد السلام نوح.

وقال العلامة الوادعي -رحمه الله تعالىٰ- في كتابه‏ «فضائل نصائح‏» ص(186)‏: ‏«فالأدلة متكاثرة علىٰ العذر بالجهل من الكتاب والسنة‏».

نقل الإجماع على ما تقدم
من عذر الجاهل في عموم المسائل: العلمية منها والعملية

بعد أن سقنا طرفًا من أدلة الكتاب والسنة علىٰ أن الجاهل غير مؤاخذ بجهله، في أصول العقائد أو في الفروع، في عصر العلم أو غيره، في دار الإسلام فضلًا عن غيرها، حتىٰ تقام عليه الحجة التي يكفر مخالفتها.

وفي ذكر الإجماع علىٰ ذلك يقول الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه الله تعالىٰ- في‏ «الفصل…‏» (3/253)‏: «وبرهان ضروري لا خلاف فيه، وهو: أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم، وهو أن كل من بدل آيه القرآن عامدًا1 وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمدًا كذلك، أو زاد فيه كلمة عامدًا فإنه يكفر بإجماع الأمة كلها.

ثم إن المرء يخطئ في التلاوة، فيزيد كلمة وينقص أخرىٰ، ويبدّل كلامه جاهلًا مقدرًا أنه مصيب، ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق ولا يكون بذلك عند أحد من الأئمة كافرًا ولا فاسقًا ولا آثمًا. فإذا وقف علىٰ المصاحف أو أخبره بذلك من القرّاء من تقوم به الحجة بخبره؛ فإن تمادىٰ علىٰ خطئه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة‏».

هذا.. وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالىٰ‏-: «أهل الحديث وجمهور الفقهاء من: المالكية والشافعية والحنبلية وعامة الصوفية وطوائف من أهل الكلام من متكلمي السنة وغير متكلمي السنة من المعتزله وغيرهم متفقون على أن من لم يؤمن بعد قيام الحجة بالرسالة فهو كافر‏» ‏«مجموع فتاوىٰ شيخ الإسلام‏» (20/86)‏.

بيان عظيم الحاجة إلى تعلم العلم الشرعي
لدفع الجهل ورفعه

أقول أخي: مما لا يخفىٰ علىٰ أريب أننا ولا شك في زمان تهيأت فيه أسباب العلم، وتيسرت سبله، وسهل فيه الوقوف علىٰ مسائله؛ إلا أنه لا تزال الجماهير المسلمة جاهلة؛ لندرة العلماء الربانيين، وقلة تلامذتهم الدعاة المخلصين من ناحية، وضعف همم الراغبين من ناحية أخرىٰ، فضلًا عن طغيان الشهوات، مع انتشار الفقر، مما كان سببًا لانشغال الجماهير المسلمة عن التعلم، ناهيك عن كثرة أدعياء العلم والمرتزقة الذين يزينون الباطل للعامة، ويلبّسون عليهم أمر دينهم، حتىٰ غابت عن أذهانهم المسلَّمات، وذهلوا عن الحقائق الواضحات.

وهذه الأدواء -المزبورة آنفًا- وغيرها، من الظهور بحيث لا تخفىٰ، مما يلزم معه تكرار دعوة الخلق إلىٰ الحق، والرحمة بهم، والرفق معهم، والعودة بهم إلىٰ ما كان عليه الجيل الأول -ذلك الجيل العظيم-.

وأيضًا: عذر من تطلخ بقاذورات الشرك وغاص في أوحاله -عافانا الله تعالىٰ وإياكم من الشرك بصوره، وسلّمنا من وسائله وأسبابه-.

وبعد تلكم المقدمات، أقول: ينبغي علىٰ المكلفين الدعوة إلىٰ العلم والقيام إليه وعليه وبه.

وفي ذلك قول حافظ المغرب ابن عبد البر -رحمه الله تعالىٰ-‏: ‏«ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم، أثم. والله أعلم» «التمهيد‏» (4/140).

وقال الإمام القرافي -رحمه الله تعالىٰ-‏: ‏«القاعدة الشرعية دلّت علىٰ أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالىٰ بعث رسله إلىٰ خلقه برسائله، وأوجب عليهم كافّة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلًا فقد عصىٰ معصيتين لتركه واجبين‏» ‏«الفروق‏» للقرافي (4/264).

ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالىٰ-‏: ‏«إن بيان الحكم سبب لزوال الشبهة المانعة من لحوق العقاب، فإن العذاب الحاصل بالاعتقاد ليس المقصود بقاؤه بل المطلوب زواله حسب الإمكان، ولولا هذا لما وجب بيان العلم، ولكان ترك الناس علىٰ جهلهم خيرًا لهم‏» ‏‏«مجموع فتاوىٰ شيخ الإسلام‏» (20/279)، (22/16).

هذا ما تيسر إيراده في هذه العجالة في ذلك الموضوع الخطير وفيه العظة لمتعظ، والقناعة لمستقنع، وصلِّ اللهم وسلم وبارك علىٰ نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.

كتبه
راجي رحمة مولاه
أبو عبد الله
محمد بن عبد الحميد بن محمد حسونة
في 9/6/1424هـ – 7/8/2003
  1. وسأنقل لك هنا كلامَ أئمة الفتوى في هذا الزمان إنزالا لهذه القاعدة الشرعية وتأويلا لها: لما عرض الحلبي على العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- فتوى اللجنة الدائمة (2/14) في مسالة حكم ساب الدين، وقولهم‏: ‏«وينبغي أن يبيّن له أن هذا كفر، فإن أصرّ بعد العلم: فهو كافر‏» قال: وعرضت عليه كذلك فتوى فضيلة أستاذنا الشيخ أبي عبد الله محمد بن صالح العثيمين $ ضمن‏ «مجموع فتاويه‏» (2/154)، واشتراطه‏ «الإرادة والقصد‏» للحكم بتكفير المعين للفعل بذلك. ثم سألته بعد: هل ترون غير هذا الحكم؟ فكان جوابه حاسمًا حازمًا جازماً: «بل هذا عين ما نقول به‏» انظر‏ «التعريف والتنبئة» ص(44).

    وسئل الشيخ عبد الزارق عفيفي -رحمه الله تعالى- في «فتاويه‏» ص(372): «ما حكم المستهزئ بالدين أو سابّ الدين أو الرسول ﷺ أو القرآن العظيم، هل يكفر؟ ولو كان جاهلا؟ فقال الشيخ -رحمه الله تعالى-: هذا الباب كغيره من أبواب الكفر، يُعلم ويؤدب، فإن علم وعاد بعد التعليم والبيان كفر. وإذا قيل: لا يعذر بالجهل، فمعناه يُعلم ويؤدب، وليس معناه انه يكفر‏».