الرئيسة   »   مؤلفات الشيخ   »   ضوابط التكفير والتحذير من التسرع فيه   »   تتمة البيان في ضابط الحكم على الأعيان

(أضيف بتاريخ: 2021/01/04)

بيانات الكتاب

تتمة البيان في ضابط الحكم على الأعيان

تتمة البيان في ضابط الحكم على الأعيان

وصف مختصر:

بحث متتم لبحث سلف موسوم بـ «دعوة المعلمين للتفريق في مسائل التكفير والتبديع والتفسيق بين الإطلاق والتعيين»

المؤلف:

فضيلة الشيخ محمد بن عبدالحميد حسونة $

الناشر:

لم يُطبع بعد!

حجم الكتاب:

وسط

تاريخ التأليف:

2/2/1429هـ - 12/2/2008م

عدد مرات القراءة:
قراءة

تحميل

( 1 MB )

قراءة

( 67 صفحة )
تتمة البيان في ضابط الحكم على الأعيان
  • +  تكبـير الخط
  • -  تصغيـر الخط

قال شيخ الإسلام $:«فالتكفير يختلف باختلاف حال الشخص، فليس كل مخطئ ولا مبتدع، ولا جاهل، ولا ضال يكون كافراً، بل ولا فاسقا، بل ولا عاصيا» «مجموع الفتاوى‏» (12/180).

 

تتمة البيان في ضابط الحكم على الأعيان

بحث متتم لبحث سلف موسوم بـ
«دعوة المتعلمين للتفريق في مسائل التكفير والتبديع والتفسيق بين الإطلاق والتعيين» ( اقرأه من هنا )

شواهد الوجود في كل الديانات ومختلف المعتقدات
قاضية صارخة بأنه: لا حكم على معين -كائنا من كان، في أي أمر كان-
قبل استبيان.أيا حبيب:
التبديع حكم شرعي،
يفرّق فيه بين الإطلاق والتعيين
وهذا يشمل المسائل الظاهرة والخفية
وينسحب على الداعي وغير الداعي

 

المقدمة وفيها الباعث على الطرح

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ سورة‏ «آل عمران‏» الآية(102).

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة‏ «النساء‏» الآية(1).

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة ‏«الأحزاب‏» الآية (70-71).

فإن أصدق الحديث: كلام الله. وخير الهدي: هدي محمد ﷺ. وشر الأمور: محدثاتـها. وكل محدثة، بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما بعد:

نسأل الله تعالى تثبيتًا وتوفيقًا: في زمن الفتنة، وفوضى الفُرقة، وتصدر جهول، وسماع فجور، وتناكح فهوم، وتناحر أهواء، وتشابك آراء، وتشتت صدور، وتقاتل أقوال، وتقلب أحوال، مع ضعف تصور، وعدم نضوج، وخفاء وضوح، واختلاف فروق نفسية، وتأثير نشأة اجتماعية. يقف الرسوخ العلمي سداً منيعاً بأهله، يقف مستمسكاً بالأصول ثابتاً صبور، عاضاً على الثوابت بالنواجذ مبرور، فلا تضره فتنة ولا يستذله فجور، يأوي إليه رجاله في طمأنينة وحبور.

دليل ذلك:

ما ورد في ‏«الصحيح‏» من حديث حذيفة –رضي الله تعالى عنه-‏: «تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربدا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه‏» رواه الإمام مسلم وغيره، وانظر «صحيح الجامع‏» برقم (2960).

أجل.. إن السلفي بل السلفيين أبناء الدليل، قوم يسيّرهم النص، يخضعون أمام سلطانه1 يتهمون أقوالهم وينكرون أفعالهم عند مخالفته، لأجل ذلك الأوبة فيهم أسرع2 واتهام النفس أسبق.

يقول الإمام المطلبي، محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله تعالى‏: ‏«ما كابرني أحد على الحق ودافع، إلا سقط من عيني، ولا قبله إلا هبته، واعتقدت مودته‏» «سير أعلام النبلاء‏» (10/33).

كانوا – رحمهم الله تعالى- دعاة صدق وبرّ، طاهروا الجنان مع البنان، أعفة اللسان والسنان، الأمر الذي حجبهم عن إطلاق الأحكام – كل الأحكام- على الأنام – كل الأنام- إلا بعد بيان تلو بيان.

بل وعند تيقن المخالفة كانوا صُبرا، فستروا وتضرعوا ونصحوا، كرروا النصح تكرارا، صبروا على المخالف وصابروا بل رابطوا بغية التجميل.

قال إمام الجرح والتعديل الإمام يحيى بن معين – رحمه الله تعالى‏: «ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته، وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلًا في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبيّن له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك، وإلا تركته‏» «سير أعلام النبلاء‏» للحافظ شمس الدين الذهبي (11/83).

لم يعجلوا -في الحكم بالابتداع تعيينا والسبّ- عجلة النسناس3 لم يتسابقوا فيه تسابق الفراش إلى نار إيناس بل كانوا سادة الناس، وبمقتضى تلك السيادة سادوا:

ومن الصور الرائعة الرائقة في الباب، والتي حفظها لنا بكل فخر وإعزاز تأريخنا المجيد التليد:

عن يونس بن عبد الأعلى-رحمه الله تعالى- تلميذ الإمام الشافعي، قال: قال الشافعي– رحمه الله تعالى- ذات يوم: يا يونس، إذا بلّغت عن صديق لك ما تكرهه، فإياك أن تبادر بالعداوة، وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن القه، وقل له، بلغني عنك كذا وكذا، وأجدر أن تسمي المبلغ، فإن أنكر ذلك، فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تزيدن على ذلك شيئاً، وإن اعترف بذلك فرأيت له وجهاً، بعذر فاقبل منه‏» «الحلية‏» (9/122).

وقال الإمام الآجري –رحمه الله تعالى- في ‏«ذكر الأغلوطات وتعقيد المسائل‏» ‏: «وليس هذا طريق ما تقدم من السلف الصالح، ما كان يطلب بعضهم غلط بعض، ولا مرادهم أن يخطيء بعضهم بعضاً، بل كانوا علماء عقلاء يتكلمون في العلم مناصحة وقد نفعهم الله بالعلم‏» «أخلاق العلماء‏» للآجري ص(87) في أقوال.

ومن ذا -أي: الأقوال المخالفة-: القول باعتبار ضوابط إنزال الحكم على المعين في التكفير لا التبديع –في حق الداعي وفي المسائل الظاهرة4– وكذا القول أن كل مخالفة بدعة5 وكلاهما عندي خطأ، كالقول المرسل المرجوم6 الذي اعتبر الضوابط في التكفير لا الشرك، والواجب التقيد بالوحي في الردّ كذا الحكم، ولا ينبغي قط أن تردّ البدعة ببدعة مثلها، وإنما تردّ البدع بالسنن.

وما أدري ما زالت ليالينا تفزعنا بكل كابوس، مؤلم للنفوس، مورث لعبوس، والتباس عند بعض الناس.

ولدفع هذا الخطأ، نقدم بين يديه عدة أصول:

 

الأصل الأول:
اعتبار توفر الشروط وانتفاء الموانع
في الحكم على معين بالابتداع

أجل.. يعتبر توفر الشروط وانتفاء الموانع في الحكم على معين بالابتداع لدخوله في باب الأحكام، وفي ذلك:

قال شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى– وهو يتكلم عن لعن المعين‏: «ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له، وكذلك (التكفير المطلق) و (الوعيد المطلق) ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط وانتفاء موانع‏» «مجموع فتاوى شيخ الإسلام‏» (10/329).

قلت: والتبديع من نصوص الوعيد، داخل فيه، كما لا يخفى، يؤكده ما بعده.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله تعالى‏: ‏«ومن قال إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرا ينقل عَنْ الملة فقد خالف الكتاب والسُنَّة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم مِنْ كفر كل واحد مِنْ الثنتين والسبعين فرقة؛ وإنما يكفر بعضهم بعضا مِنْ تلك الفرق ببعض المقالات‏» «مجموع الفتاوى‏» (7/218).

وهذا نص في الباب، والشاهد إثبات المباينة بين حكم المخالف والمخالفة، وتأمل كيف نسب عدم اعتبار هذا الفرق إلى من؟

ويؤكد –رحمه الله تعالى-‏: ‏«ولو كان كل ذنب لعن فاعله يلعن المعين7 الذي فعله؛ للعن جمهور الناس، وهذا بمنزلة الوعيد المطلق لا يستلزم بثبوته في حق المعين إلا إذا وجدت شروطه وانتفت موانعه وهكذا اللعن‏» انظر ‏«منهاج السنة‏» (4/573) و ‏«رفع الملام.‏» (120) و‏» المسائل الماردنية‏» ص(66/76) و‏» مجموع الفتاوي‏» (4/474).

وقال –رحمه الله تعالى-: ‏«وإذا عرف هذا فتكفير (المعين) من هؤلاء الجهال وأمثالهم – بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوز الاقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.

وهكذا الكلام في تكفير جميع (المعينين) مع أن بعض هذه البدعة8 أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض» ‏«الفتاوى‏» (12/500-501).

ويقول – رحمه الله تعالى‏: ‏«فمنهم من يكفر أهل البدع9 مطلقاً، ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية، وهذا القول أيضاً يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك‏» «منهاج السنة.‏» (5/240).

ويقول– رحمه الله تعالى- في سياق عرضه لما حكاه البعض عن الإمام أحمد من تكفيره لبعض أهل البدع‏: «وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله: أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل علياً على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم.

وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول ﷺ ظاهرة بينة، ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة.

لكن ما كان يكفر أعيانهم10 فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه.

ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، يمتحنونهم، ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم. ومع هذا فالإمام أحمد $ ترحم عليهم واستغفر لهم‏» «مجموع الفتاوى‏» (23/348-349)..

وطبّق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- هذا المسلك الأصيل عند علمائنا، فكان في محنته يقول للجهمية الحلولية‏: ‏«أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم‏» «الرد على البكري‏» (494/2) انظر «التكفير وضوابطه‏» ص(39).

الأصل الثاني:
اعتبار القصد في الحكم على المعين بالابتداع

لما كان الحكم بالابتداع حكماً، كان اعتبار القصد فيه أصلاً، وهذا لا يتحقق إلا بالاستبيان، وهو المرام.

وهنا ننظر إلى القصد من جهتين: من جهة قصد التقرب بالفعل المخالف، والثاني، قصد المخالفة:

ودليل الأول: أي: اختصاص البدعة بوصف قصد القربة، ما ورد في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – قال‏: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي ، فلما أخبروا كأنهم تقالَّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء الرسول فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏».

وفي لفظ مسلم‏: «فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش» الحديث.

ومثل هذا حديث سعد بن أبي وقاص– رضي الله تعالى عنه- قال‏: ‏«ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا‏».

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى‏: «ينكر على من يتقرب إلى الله بترك جنس الملذات، كما قال النبي للذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر‏» فالإنكار إنما توجه إليهم بسبب قصد القربة بهذا الترك.

واعتبار المقصد في هذا الباب هو فرع اعتباره في كل الأبواب الشرعية، وهو الثاني، وفي ذلك:

جاء في الحديث المشهور المروي عن النبي ﷺ أنه قال‏: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏» رواه ابن ماجة ح(2043) وغيره، وصححه العلامة الألباني في‏» صحيح ابن ماجة‏» برقم(1662).

وقال الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- في معنى الحديث‏: «هو معنى متفق عليه في الجملة، لا خلاف فيه‏» «الموافقات‏» (3/263).

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- عن هذا الحديث‏: ‏«وهو حديث جليل، قال بعض العلماء: ينبغي أن يعدّ نصف الإسلام، لأنّ الفعل إمّا عن قصد واختيار أو لا، الثّاني ما يقع عن خطأ أو نسيان أو إكراه، فهذا القسم معفوّ عنه باتّفاق‏» «فتح الباري‏» (5/161).

برهان ثان: في القول يصدر يوم القيامة من آخر أهل الجنة دخولاً إليها، فيقول مخاطباً ربه جل وعلا‏: ‏«أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك؟ قال: لقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه‏» رواه البخاري ح (6571) ومسلم ح (186). وهذا القول مستقبح لا يخاطَب به الله العظيم، لكنه عفي عن قائله لفرط ذهوله.

ونقل النووي عن القاضي عياض – رحمهما الله تعالى- قوله في معنى الحديث‏: «هذا الكلام صدر من هذا الرّجل وهو غير ضابط لما قاله، لما ناله من السّرور ببلوغ ما لم يخطر بباله، فلم يضبط لسانه دهشاً وفرحاً، فقاله وهو لا يعتقد حقيقة معناه، وجرى على عادته في الدّنيا في مخاطبة المخلوق‏» «شرح النووي على صحيح مسلم‏» (3/40).

وفي هذا الأذى ونحوه، يقول السبكي– رحمه الله تعالى‏: ‏«لكن الأذى على قسمين أحدهما: يكون فاعله قاصداً لأذى النبي ﷺ ولا شك أن هذا يقتضي القتل، وهذا كأذى عبد الله بن أُبي في قصة الإفك.

والآخر: ألا يكون فاعله قاصداً لأذى النبي ﷺ مثل كلام مسطح وحمنة في الإفك، فهذا لا يقتضي قتلاً.

ومن الدليل على أن الأذى لا بدّ أن يكون مقصوداً قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ سورة ‏«الأحزاب‏» الآية(53).

فهذه الآية في ناس صالحين من الصحابة، لم يقتض ذلك الأذى كفراً، وكل معصية ففعلها مؤذي، ومع ذلك فليس بكفر، فالتفصيل في الأذى الذي ذكرناه يتعين‏» «فتاوى السبكي‏» (2/591) عن «التكفير وضوابطه‏».

وعليه:

فالحكم بالابتداع دون مراعاة لضوابطه فرع عن إهمال المقاصد في الأحكام وهي معتبرة.

وقاعدة ‏«الأمور بمقاصدها‏» اتفقت عليها جميع المذاهب واعتبرتها! وهي واحدة من القواعد الفقهية الخمس التي يرجع إليها أكثر مسائل الفقه‏» انظر ‏«المجموع المذهب‏» للعلائي (1-35-37).

والمراد بالأمور في القاعدة: تصرفات المكلفين، وهي محصورة في الأقوال والأفعال والاعتقادات والتروك.

وأصل هذه القاعدة: ومن الأدلة على هذه القاعدة من القرآن قوله تعالى‏: ‏﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏ سورة ‏«البينة‏» الآية(5) وقوله: ﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ ﴾ ‏سورة ‏«النساء‏» الآية(100).

وأقرب الأحاديث إليها حديث النية: ‏«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‏» الحديث بل هو أصل القاعدة ومستند الفقهاء في تأسيسها، بل تعد القاعدة مطابقة للحديث منطوقاً ومفهوماً، فالشاهد من الحديث ‏«إنما الأعمال بالنيات‏» فبين النبي –صلى الله تعالى عليه وإخوانه وآله وسلم– أن حكم العمل مبني على نيته صوابا أو خطأ، صحة أو فسادا، حلا أو حرمة. مع اعتبار موافقته ليصير صالحا ومن ثم يقبل ويرفع.

منزلتها:

منزلة القاعدة فرع عن منزلة الحديث لمطابقتها له، فلقد ‏«أشاد العلماء بهذه القاعدة، وكلامهم عن حديث الأعمال بالنية ينسحب إلى القاعدة لأنهما متوافقان:

ومن أقوالهم في ذلك:

ما نقل عن الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه قال‏: «يدخل في هذا الحديث ثلث العلم‏» «المجموع المذهب من قواعد المذهب‏» للعلائي (1-37).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-‏: «المعنى الذي دل عليه هذا الحديث، أصل عظيم من أصول الدين، بل هو أصل كل عمل‏» «مجموع الفتاوى‏» (18-249).

ويقول العلامة شمس الدين ابن القيم –رحمه الله تعالى-‏: ‏«فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها، يبنى عليها ويصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة‏» «إعلام الموقعين.‏» (4-199).

الحاجة إليها:

ولعظم هذا الأمر وأهميته في معاملات المكلفين عموما وعباداتهم خصوصا؛ تمنّى ابن أبي جمرة الأندلسي (ت: 695 هـ ) أن يتفرغ عالم؛ كي يعلم الناس مقاصدهم، فقال:

‏«وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك‏» «المدخل‏» لابن الحاج (1/3).

ومن هنا تتقرر هذه القاعدة التي نص عليها الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- حيث قال‏: «ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا، وليس بمشروع».

أجل:

فاعتبار القصد موقع عمل العلماء، ومحل نظر الفقهاء، بل واختلاقه كعذر صنعة الأتقياء.

قال الفضيل بن عياض – رحمه الله تعالى-‏: ‏«إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك» «جامع العلوم والحكم‏» للإمام ابن رجب ص(16).

وقال الإمام الشاطبي – رحمه الله تعالى‏-: ‏«إن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات والأدلة على هدا المعنى لا تنحصر.

والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة، ويقصد به شيء أخر فلا يكون كذلك.

بل يقصد به شيء؛ فيكون إيماناً. ويقصد به شيء آخر فيكون كفراً: كالسجود لله أو للصنم‏» «الموافقات‏» للإمام الشاطبي (3/7) طبعة دار ابن عفان.

ويقول شيخ الإسلام– رحمه الله تعالى ‏«ولهذا كانت الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصد.

ويقول بعدها‏: «وما وقع من لفظ أو حركة– بغير قصد القلب وعمله- فإنه لا يؤاخذ به‏».

وبعدها قال‏: «وأما إذا كان يعلم ما يقول: فإن كان مختاراً قاصداً لما يقوله: فهذا الذي يعتبر قوله‏» «مجموع فتاوى شيخ الإسلام‏» (14/115،116،118).

ويقول -رحمه الله تعالى-‏: ‏«والمقصود هنا أن الأئمة كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها؛ فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة.

كما يروى عن مالك – رحمه الله تعالى- أنه قال‏: ‏«إذا قلّ العلم، ظهر الجفاء، وإذا قلّت الآثار كثرت الأهواء‏».

فإذا لم يكن اللفظ منقولاً، ولا معناه معقولاً، ظهر الجفاء والأهواء.

ولهذا تجد قوماً كثيرين يحبون قوماً ويبغضون قوماً لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها أو يعادون، من غير أن تكون منقولة نقلاً صحيحاً عن النبي-صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- وسلف الأمة‏» «درء تعارض العقل والنقل‏‏» (1/271).

ويقول العلامة شمس الدين ابن القيم -رحمه الله تعالى-‏: ‏«ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم‏» ‏«أعلام الموقعين.‏» (3/124).

ويقول -رحمه الله تعالى-: «وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات‏» «إعلام الموقعين‏‏» (3/95).

ويقول أيضا -رحمه الله تعالى-‏: ‏«وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده: القصود في العقود معتبرة وتؤثر في صحة العقد وفساده قضاءً وفي حله وحرمته ديانةً‏» «إعلام الموقعين‏‏» (3/109).

وقال -رحمه الله تعالى-‏: ‏«فصل: أن الرجل إذا نسب النفاق أو الكفر متأولاً وغضباً لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه؛ فإنه لا يكفر بذلك بل لا يأثم به، بل يثاب على نيته وقصده.

وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع؛ فإنهم يُكفّرون ويُبدّعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدَّعوه‏» أهـ ‏«زاد المعاد‏» (2/231) أي: أولى بإثم ذلك ممن كفروه.

قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-‏: «وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- وأصحابه، وهو قصد السبيل.

وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة، وإن قاله من قاله.

لكن الجور قد يكون جوراً عظيماً عن الصراط، وقد يكون يسيراً، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله.

وهذا كالطريق الحسي، فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جوراً فاحشاً، وقد يجور عنه ذلك، فالميزان الذي يعرف به الإستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- وأصحابه عليه، والجائر عنه إما مفرط ظالم، أو مجتهد متأول، أو مقلد، أو جاهل.

فمنهم المستحق للعقوبة11 ومنهم المغفور له، ومنهم المأجور أجراً واحدا، بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم في طاعة الله تعالى ورسوله أو تفريطهم‏» رسالة ‏«الوسوسة‏» مستله من كتاب «إغاثة اللهفان‏» للعلامة ابن القيم ص(11-12) استلها: أحمد سالم بادويلان- دار طويق للنشر والتوزيع.

 

 

الأصل الثالث:
قاعدة اللازم وبيان أن عدم اعتبار التفريق في الحكم
بين البدعة والمبتدعة، هو في حقيقة الأمر حكم باللازم

قال شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى-‏: ‏«فالصواب أن مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذباً عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله، وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال، مما هو أكثر، فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها، لكن لم يعلم أنها تلزمه‏» «مجموع الفتاوى‏» (20/217).

ويقول -رحمه الله تعالى-‏: ‏«فلازم المذهب ليس بمذهب، إلا أن يستلزمه صاحب المذهب، فخلق كثير من الناس ينفون ألفاظاً أو يثبتونها، بل ينفون معاني أو يثبتونها، ويكون ذلك مستلزماً لأمور هي كفر، وهم لا يعلمون بالملازمة، بل يتناقضون، وما أكثر تناقض الناس لا سيما في هذا الباب، وليس التناقض كفراً‏» ‏«مجموع الفتاوى‏» (5/306-307).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-‏: «ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي ألا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة» «مجموع الفتاوى‏» (20/217).

قال الإمام أبو محمد ابن حزم –رحمه الله تعالى-‏: «وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ، لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ فرّ من الكفر‏» «الفصل‏» (3/294).

ويقول ابن حجر المكي‏: ‏«الأصح أن لازم المذهب ليس بلازم‏» «تحفة الأحوذي‏» (6/302).

وقال ابن رشد (الحفيد)‏: «وأكثر أهل البدع إنما يكفرون بالمآل» ‏«بداية المجتهد‏» (2/343).

وقال العلامة ابن عثيمين –رفع الله تعالى درجاته في عليين- عن قاعدة ‏«اللازم‏» من كتابه الماتع ‏«القواعد المثلى‏» ‏: «الإنسان بشر، وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق لمناظرات دون التفكير في لوازمهم، ونحو ذلك‏» أهـ ‏«القواعد المثلى‏» ص(12-13) يعني: مما يوجب معه العذر، ويسقط له الحكم‏» إهـ.

وسئل العلامة الألباني –قدّس الله تعالى روحه ورفع درجته-: ما رأيكم في هذه القواعد: من لم يكفر الكافر فهو كافر، ومن لم يبدع المبتدع فهو مبتدع، ومن لم يكن معنا فهو ضدنا.

فأجاب (وكما هو ظاهر باستغراب): ومن أين جاءت هذه القواعد؟ ومن قعَّدها؟!.

هذا يُذكّرني بنُكتة تُرْوى في بلادنا الأصيلة ‏«ألبانيا‏» حكاها في بعض المجالس والدي– رحمه الله تعالى- القصة تقول: بأن رجلاً عالماً زار صديقاً له في بيته، ثم لما خرج من عنده كَفَّرهُ قيل له: لِمَ؟ عندنا عادة في بلادنا وهي عادة أظُن مضطردة في بلاد العالِمْ يُعَظِّمون ويحترمون أو يُوّقِّرُون العلماء في بعض الأعراف والتّقاليد التي تختلف في اختلاف البلاد، منها: رجلٌ مثلاً دخل الغرفة ونزل عليه، فهو حين يَخْرُجْ ينبغي أنْ يُدار النّعِلْ بحيث أن العالِمْ لا يتكلّف أن يَلِفْ ويدور كأنه داخل وانما يجعل النعل مهيأ لدك قدميه فيه، فهذا العالِمْ لَمَّا زار صديقه وخرج وجد النَّعِلْ كما هما، يعني ما احترم الشيخ، تركهما كما هما، فقال الرجل العالِمْ: أنّ هذا كَفَرْ، لماذا؟ لأنه لم يحترم العالِمْ، ومَنْ لا يحترم العالم لا يحترم العِلِمْ، والذي لا يحترم العلِمْ لا يحترم مَنْ جاء بالعِلمْ، والذي جاء بالعلم هو محمدوهكذا سلْسلَها إلى جِبْريل، إلى رب العالمين، فإذاً هو َ كافر.

هذا سؤآل أو هذه القاعدة ذكرتني بهذه الإطلاقة.

ليس شرطاً أبداً أنّ مَنْ كَفَّرَ شخصاً وأقام عليه الحُجَّة، أنْ يكون كّلَّ النَّاس معه في التَّكْفير؛ لأنه قد يكون هو متأوِّلاً، ويرى العالِمُ الآخِرُ أنه لا يجوز التَّكْفير، كذلك التَّفْسيق والتَّبْديع.

فهذه الحقيقة مِنْ فِتَنْ العصر الحاضر، ومِنْ تسرُّع بعض الشباب في إدِّعاء العِلْم سواءٌ مقصود أن هذا التَّسلْسُلْ أو هذاالإلزام هو اللازِم ابداً، هذا بابٌ واسعْ قد يرى عالِمْ أمْراً واجباً، ويراه الآخَرْ ليس كذلك، كما اختلف العلماء مِنْ قبل ومِنْ بعد إلا لأنه بعض الإجتهاد لا يُلْزم الآخرين بأن يأخذوا برأيهِ، الذي يُوجِبْ الأخذْ برأي الآخَرْ إنّما هوَ المُقَلِّدْ الذي لا علم عنده، فهو يجب عليه أن يُقلِّدْ، أمّا مَن كان عالماً كالذي كَفَّرَ أو فسَّقَ أو بَدَّعْ، ولا يَرى مثل رأيهِ فلا يَلْزمُهُ أبداً أنْ يُتابِعَ ذلك العَالِمْ، الظاهر أن هذه المصيبة كأنها إن شاء الله ما انتشرت بعد مِنْ بلادكم إلى بلادٍ أخرى‏» المصدر: شريط رقم778 السؤآل الرابع مِنْ ‏«سلسلة الهدى والنور‏» والنقل عن منتديات البيضاء [من هنا].

‏«وأما من أراد السلامة في دينه والبراءة من الولوغ في ظلم الآخرين فإنه لا ينسب إلى الآخرين إلا صريح قولهم، ولا يحاسبهم بما تؤول إليه أقوالهم مما يستنكرونه ولا يقرونه، فهذا فعل أهل البدع لا الحق والرشاد‏» «التكفير وضوابطه‏» ص(47-49).

هذا.. والجامع لم تقدم، ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-:

‏«وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان، فيهم العلم والعدل والرحمة فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون فيمن خرج منها ولو ظلمهم كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ سورة ‏«المائدة‏» الآية (8).

ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون لهم الشرّ ابتداء بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا» ‏«الرد على البكري‏» ص (257).

وإنا إذ نذكر هذا، نذكر معه قول الإمام العلم أبو محمد ابن حزم –رحمه الله تعالى-‏: ‏«لم يأمر الله قط بإصابة الحق، لأنه تكليف ما ليس بوسعه‏» ‏«الإحكام‏» (2/652).

 

مناقشة أقوال

أولاً: وأما التفريق بين الكفر والابتداع – في إقامة الحجة وبيان المحجة- في الحكم على الأعيان، فهو تفريق – بحسب علمي- مارق، ولا أعتقد أن له دليل ناصر، ولا يقول به حاذق حاذر، بل الدليل– النقلي والعقلي- خلافه:

أما الدليل النقلي: فالأدلة قاضية12 بأنه لا حكم إلا بعد استبيان، والطعن بالابتداع حكم، فيلزم والحالة هذه لوازمه، هذا لا أعلم فيه خلافا.

ثانيا: لا أقبل قط القول بأن المتلبس ببدعة ولو ظاهرة أنه مبتدع دون استبيان، بمجرد التلبس وعدم اعتبار الالتباس، ولو كان ممن في الناس إمام؛ إذ المجتهد قد يجهل وقد يتأول وقد يكره، وقد يخطئ13 والخطأ يعمّ الخلق –عالمهم وجاهلهم- والناس فيه بين مستقل ومستكثر –ارجع في ذلك ‏«رفع الملام عن الأئمة الأعلام‏» و‏«إعلام الموقعين‏» وغيرهما.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-‏: ‏«وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا» «مجموع الفتاوى‏» (3/231).

وقال –رحمه الله تعالى‏-: ‏«أن الإنسان قد يكون مكذبًا ومنكراً لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها، وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر، بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك، أو يفسر له معناه، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه، فيصدق بما كان مكذبًا به، ويعرف ما كان منكرا ًوهذا تصديق جديد وإيمان جديد ازداد به إيمانه، ولم يكن قبل ذلك كافراً بل جاهلاً‏» «مجموع الفتاوى‏» (7/237).

أقول: إذا كان الحكم بالكفر لا يلزم صاحبه إلا بثبوت شروطه وانتفاء موانعه، فكذلك الحكم بالابتداع بعلة أن كلا منهما حكم شرعي، ومع اعتبار أن من الابتداع نوع كفري، وفي ذلك:

قال العلامة شمس الدين ابن مفلح– رحمه الله تعالى‏: ‏«قال الشيخ تقي الدين– يعني: شيخ الإسلام رحمه الله تعالى – وهذا القول الجامع للمغفرة لكل ذنب. إن الله تعالى قد بيّن في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع‏» انتهى كلامه ‏«الآداب الشرعية‏» (1/92).

والشاهد: الملازمة بين الحكمين-الكفر والابتداع- وعدم اعتبار ذاك التفريق.

وفي أبواب الكبائر -الموجبة للحد- أيضًا، وهي دون الابتداع -من جهة- تفتقر كذلك في حالة التعيين –أي: عند رمي متعاطيها بالفسق، عند إقامة الحدّ- إلى تلك الشروط -وما قصة شرب الخمر من عظيم عنا ببعيدة، وغيرها- لتعلقها بالأصل الأصيل العام ‏« لا حكم – تكفيرا كان أو ابتداعا أو لعنا أو تفسيقا- إلا بعد البيان‏» على تفاصيل أخرى معتبرة: كاعتبار المُبيّن، والكيفية، والمدة والعقوبة وأثرها.

قال الإمام أبو محمد ابن حزم – رحمه الله تعالى‏: ‏«ليس كل ضلال كفراً، ولا فسقاً إلا إذا كان عمداً، وأما إذا كان من غير قصد فالإثم مرفوع فيه كسائر الخطأ‏» ‏«الإحكام‏» (2/652).

وقال شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى-‏: ‏«وقاعدة هذا الباب: أن الأحكام إنما تثبت في حق العبد بعد بلوغه هو، وبلوغها إليه. فكما لا يترتب في حقه قبل بلوغه هو، فكذلك لا يترتب في حقه قبل بلوغها إليه.

.وهذا مجمع عليه في الحدود14 أنها لا تقام إلا على من بلغه تحريم أسبابها، وما ذكرناه من النظائر يدل على ثبوت ذلك في العبادات والحدود.

ويدل عليه أيضاً في المعاملات: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ سورة ‏«البقرة‏» الآية(278) فأمرهم تعالى أن يتركوا ما بقي من الربا وهو ما لم يقبض، ولم يأمرهم برد المقبوض، لأنهم قبضوه قبل التحريم فأقرهم عليه.

بل أهل قباء صلوا إلى القبلة المنسوخة بعد بطلانها ولم يعيدوا ما صلوا. بل استداروا في صلاتهم وأتموها، لأن الحكم لم يثبت في حقهم إلا بعد بلوغه إليهم. الخ‏» إنتهى المقصود.

ويقول مؤرخ الإسلام الحافظ الإمام شمس الدين الذهبي -رحمه الله تعالى-: ‏«فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه، والله لطيف رؤوف قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ وقد كان سادة الصحابة – رضي الله عنهم – بالحبشة ينـزل الواجب والتحريم على النبي ﷺ فلا يبلغهم إلا بعد أشهر، فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص، وكذا يعذر بالجهل من لم يعلم حتى يسمع النص، والله أعلم » ‏«كتاب الكبائر‏» له ص(12).

وعليه أقول:

أولاً: ليس كل من خالف يكون كافرا ولا مبتدعا ولا حتى عاصيا، ابتداءا، لاعتبار عوارض: الجهل أو التأويل أو الإكراه، كما أنه ليس كل صاحب هوى مبتدع، وليس كل قائل ضلال15 مبتدعا، وليس كل من رأي رأيا وإن خالف، يوسم صاحبه بالابتداع.

فما تقدم: قد يكون تارة هدر، وقد يكون معصية، وقد يكون بدعة، وقد يكون كفر. و(قد) هذه مانعة من إطلاق الحكم تعيينا قبل الاستفسار والاستفصال.

قال العلامة ابن عثيمين – رحمه الله تعالى‏: ‏«لا يمكن الامتثال للأمر المجمل إلا ببيانه‏» «فوائد على رياض الصالحين‏» جمع: عبد العزيز الحسيني ص(92).

ثانياً: ما خالف من أثر أو قول إمام متقدم أو معاصر- فمحمول على الإطلاق، أو حكم خاص قامت عنده دلائله وفق الشروع العلمية والآداب المرعية، ننسب حكمه له، وننقله عنه، ولا نتخطاه لغيره من المخالفين -قياسا أو إلحاقا بدعوى اللازم أو لا يتصور ولا يعقل أو رضا غير مستبصر- إلا بعد بيان، إذ الحكم على العقائد -مع افتقاره للإفصاح عن المقاصد- عظيم.

.ثالثاً: أما اعتبار المراسلة والكتب والردود هي من إقامة الحجج، نعم، غير أنها غير كافية في إنزال الحكم على معين، فضلاً عن التسرع – بل ومع الأسف التشهي به- والجهر به، والإقذاع في سبّ متعاطيه، وصنيع الإمام أحمد –رحمه الله تعالى- مع الخلفاء وقد قامت بين أيديهم المناظرات – وممن وفيما؟!!!- خير شاهد.

هذا مع اعتبار ضوابط إقامة الحجج من أهلها بسوطي الحجة والبرهان والسيف والسنان، فمن لم تردعه الأولى16 تردّه الأخرى، وإلا كان مبتدعًا ولا كرامة، ويحذّر منه، ليَحذر ويُحذر، ولا يجالس بل ويحبس دون إهانة؛ اتقاء لشره، ودفعا لشرره.

رابعاً: مسألة التفريق بين الداعية من عدمه، مسألة تداخلت فيها الأقول– ولا أقول تشابهت، بل تشابكت- وعندنا المحكم – لا حكم إلا بعد استبيان- وعليه يرّد المتشابه – إن كان- إلى المحكم، ومن ثم نَسلم، ويُسلم منّا.

مع ملاحظة: أن في كلٍ: الخطأ لا يقبل، والمخالفة تردّ، والشبه تدفع، مناصحة بالرفق تارة والشدة تارة، مع الدعاء بالهداية.

وفي ردّي على ‏«الحدادية‏» -هداهم الله تعالى- المنشور باسم ‏«قوة الجلاد والألسن الحداد على المدعو الحداد وشيعته أهل الإفك والعناد‏» تحت ترجمة ‏«اضطرابه في مسألة التفريق بين الداعية وغيره وانتصاره للمنع‏».

.قلت‏: «في ص(420) وفي سطر واحد بالخط الخفيف، قال‏: ‏«ومن الخطأ الكبير الخلط بين قبول رواية المبتدع المستور غير الداعية، وقبول رأيه وعلمه‏» انتهى.

قلت: فهدم بهذه الأحرف القليلة جهد مئات الآثار وجهادها، وسببت وجود هذه الأحرف -مع قلتها- اضطراباً وشجاراً بين التراجم فتداخلت في قتال أفقدها معالمها، وأسكنت ثورة ‏«الرأي‏» ضد المسود؛ إذا أقرّ به هنا، بعد تكفيره له، وتشبيهه بالشيطان، وقال لا بد له من الهجران و. و. إلخ..

لذا أفرزت هذه الأحرف المضطربة عدة نتائج:

الأولى: سؤال المسود: هل اعتبرت التفريق بين الداعية وغير الداعية؟ أم صرحت كما صرح شيخك بأن الحكم في الكل سواء.

الثانية: وهل لا يوجد في «الصحيحين‏» من أحاديث المبتدعة– حتى الدعاة بل والغلاة منهم، على تفصيل- أم لا؟ وعليه فما الموقف تجاه الصحيحين – لا من شارحيهما؟

الثالثة: اعتبرت عدم التفريق ‏«خطأ كبير وأنه خلط‏» ووقع ذلك منك ومن شيخك في بيان منهج!!!

وفي ص(460) ينقل أثراً ليس فيه الدلالة على منزعه ثم يقول‏: «وهذا يدلّ على أن أحمد رجع عن التفريق بين الداعية وغير الداعية.

وفي ص(606) ترجم «رواية الحديث للمبتدعة والرواية عنهم‏» وتحتها قال وهذا الباب اضطرب فيه كثير من الناس، والسبب في ذلك أن بعض أئمة السنة روى عن المبتدعة بل عن رؤوسهم‏».

فأثبت هنا ما هدم أصوله: إذ الرواية تستلزم توثيقه والجلوس تحت قدميه، وإثبات المشيخه له– وهذا تكريم-والتحديث عنه دعوة إليه…إلخ فبماذا يخرج علينا المسود؟ بل وصرح في(631) بأنه يكتب عنهم العلم وتجوز شهادتهم ما لم يكن داعية.

ثم عاد للدندنة إلى التعويل على‏ «أوائل أهل السنة‏» ورمى بعض أهل السنة -المرضيين عنده- بالتناقض وذلك في قوله ‏«وحتى الذين رووا عن المبتدعة نقل عنهم عدم الجواز مطلقاً‏» وزاد ‏«وبعضهم أعلن شروط الرواية عنهم في كلامه ولم يلتزم بها‏»17 إهـ المراد.

كما جاء في ردّ الشيخ الربيع -ثبته الله تعالى- على الحداديّة‏: «وماذا نصنع بمن روى عن أهل البدع غير الدعاة من القدرية والشيعة والمرجئة بل الخوارج، بل بعض السلف كان يروي عن المبتدعة الدعاة.

وماذا نصنع برواياتهم في ‏«الصحيحين‏» و‏«سائر الأمهات والمسانيد والجوامع‏» إذا أخذنا بهذا المذهب الحدادي‏» «مجازفات الحداد ومخالفاته لمنهج السلف‏» ص(81-82).

والمقصود: أن الاتكاء على بعض الآثار وحدها، دون مراعاة الأدلة الربانية والضوابط الشرعية واعتبار قرائن الأحوال، خطأ، وإنما الواجب اعتماد النص المعصوم وفهم السلف الموافق له، ومن خالف –ممن سلف- ترّد مخالفته بحسبها وحسبه، مع حفظ مكانته، والترحم عليه.

وأرى أن غضّ الطرف عنها أولى18– بل آكد- ما لم تكن حاجة، وبقدرها؛ صيانة لرتبتهم.

وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام– رحمه الله تعالى- في وصف هؤلاء– الذين لا يفرقون بين البدعة والمبتدع في الحكم- وبين المبتدعة– الذي يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏: ‏«وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفّروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟..

فلا يحل لأحد من هذه طوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال19بحقائق ما يختلفون فيه‏». ‏«مجموع الفتاوى‏» (3/282-283).

بقي التنبيه: أن تبني هذا التفريق – وقد علم ما فيه- وأحكام أخرى غبرت، تنبئ أن وراءها أحكام هي الأشد وأفكار هي الأفج، فالله الله في كبح الجماح قبل التفلت، ولو كان، كان معه التقلب.

عصمنا الله وإياكم من مثل ذي الفتن، وأخذ بأيدينا وأيدكم إلى محابه، ونفع بنا وبكم، وتقبلنا وإياكم في الصالحين.

تابع القراءة: أقوال أهل العلم المعاصرين تدور في فلك ما تقدم.

  1. قال عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله تعالى- حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: لقيت زفر $ فقلت له: صرتم حديثاً في الناس وضحكة! قال: وما ذاك؟

    قلت: تقولون ‏«ادرؤا الحدود بالشبهات‏» ثم جئتم إلى أعظم الحدود، فقلتم: تقام بالشبهات.

    قال: وما هو؟

    قلت: قال رسول الله‏: ‏«لا يقتل مسلم بكافر‏» فقلتم: يقتل به – يعني بالذمي.

    قال: فإني أشهدك الساعة أني قد رجعت عنه‏».

    قال مؤرخ الإسلام الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي -رحمه الله تعالى- معلقاً: هكذا يكون العالم وقافاً مع النص.‏» «سير أعلام النبلاء‏» (8/40-41).

  2. قال الحافظ –رحمه الله تعالى- في بيان أن العلماء أسرع الناس فيئة، وأقربهم أوبة، وأحرصهم على اتباع الحق‏: ‏«الفاضل لا ينبغي له أن يعاقب من هو أفضل منه.

    وفيه: ما طبع عليه الإنسان من البشرية حتى يحمله الغضب على ارتكاب خلاف الأولى، لكن الفاضل في الدين يسرع الرجوع على الأولى.

    وفيه: أن غير النبي-صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- لو بلغ من الفضل الغاية ليس بمعصوم‏» «فتح الباري‏» (7/26).

  3. لما ذكر القول بعدم اعتبار الضوابط العلمية في التبديع خلافاً للتكفير، بحثت لأنظر هل لقائله سلف، ولم يفجأني أن وجدت له سلفاً من أقوال إخواننا أصحاب شبكة ‏«الأثري‏» والتي لم أدخلها قط، لخبر تراجم سحاب الخير والصدق، فألجأني المقام إلى نظر، وهاكموه: في http://www.alathary.net/vb2/showthread.php?t=580

    تحت ترجمة‏: ‏«قاعدة فاسدة جديدة: لا نبدع المبتدع حتى تقام عليه الشروط وتنتفي الموانع!! كتب الهاجري‏: «أن المسلم عندهم لا يكفر ولا يفسق إلا بعد إقامة الشروط وانتفاء الموانع فكذلك لا يبدع وإن كان داعيا إلى البدعة ويوالي ويعادي عليها مثل من ينتسب إلى الفرق الضالة والجماعات المنحرفة. وأقول للتوضيح أن هذه العبارة وهي عدم التبديع إلا بعد إقامة الشروط وانتفاء الموانع هذه في الرجل السني المنتسب إلى السنة إذا وقع منه الخطأ والفلتات فهذا لا يُتسرع في تبديعه حتى ينظر في حاله، أما من ينتسب إلى البدعة ويوالي ويعادي عليها فهذا حكمه في الدنيا أنه مبتدع، سواء كان معذورا عند الله أو لا؛ لأنه ليس لنا إلا الظاهر؛ وبهذا يحصل التمييز بين الفرقة الناجية ومن سواها ويعرف أهل البدعة وأهل السنة. وإليكم الآن أقوال أهل العلم على ما ذكرت».

    أقول: سبحان الله! زعم هذا البليد أن التفريق بالنظر إلى المخالف لا المخالفة! والواجب أن ينظر إليهما جميعا، بل وتقديم ما أخّره هذا المتسرع أعني المخالفة فالمخالف- مع اعتبار الشروط التي كفرها لجهله-.

    ثم يقال له – تنزلاً- ما دليلك؟ من سلفك في هذا التفريق؟ بل كيف نعرف أن الرجل مبتدعا ابتداءا حتى لا ندخله تحت شرطك؟ أوليس من أهل السنة بل من أئمتهم من قال بقول المبتدعة، واعتذر له، ولم يرموه بابتداع مع ردّهم عليه وتحذيرهم من بدعته.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى‏: ‏«وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأى رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم‏» «مجموع الفتاوى») 19/191).

    ثانياً: يقال لهذا العَجل: هل كل من انتسب للسنة هو سني؟ ثم أتنا بخارج عن أهل السنة –بالمعنى الخاص بل وحتى العام- يقول لست بسني؟ بل يزعم كل ناري أنه سلفي أثري!!!

    ثالثاً: هذه الفرق النارية القائمة اليوم أرادت خيرا لم تبلغه، وتستدل أحيانا ًبأدلتك، وأصول استدلالها في الجملة أصولك غير أنه الجهل أو الهوى، نحكم على مناهجها بالابتداع، وأفرادها بالتخطئة، ولما كان الخطأ منه الكفري والبدعي والفسقي احتجنا إلى استبيان، قبل استصدار الأحكام، وهو مرامنا، وفي كل ليس أنت ولا شيخك أهل لذا لمقام وسيأتي التدليل.

    أ‌- بالنظر إليك: استدللت – لجهلك – بما ليس فيه دلالة، بل وبما هو دليل عليك:

    فمن قبيل الأول – استدلالك بما ليس فيه دلالة: استدلاك الأول‏:«قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى‏: «فهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة وأهل النفاق والبدعة وإن كان هؤلاء لهم من الإيمان نصيب وافر من اتباع السنة لكن فيهم من النفاق والبدعة بحسب ما تقدموا فيه بين يدي الله ورسوله وخالفوا الله ورسوله ثم ان لم يعلموا أن ذلك يخالف الرسول ولو علموا لما قالوه لم يكونوا منافقين بل ناقصي الإيمان مبتدعين وخطؤهم مغفور لهم لا يعاقبون عليه وان نقصوا به» «الفتاوى‏» (13/63).

    أقول: فهذا من شيخ الإسلام حكم على سبيل الإطلاق لا التعيين – وستأتيك أقواله لا قوله- وهو قولنا لا قولك.

    ومن قبيل الثاني الاستدلال بما هو دليل عليك- دليلك الثاني‏: ‏«قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى: وسئل هل يشترط إقامة الحجة للتبديع:

    قال‏: «ليس لأحد أن يحكم على شيئ بأنه بدعة أو سنة حتى يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله وأما إن فعله عن جهل، وظن أنه حق، ولم يبين له؛ فهذا معذور بالجهل، لكن في واقع أمره يكون مبتدعا، ويكون عمله هذا بدعة ونحن نعامله معاملة المبتدع، ونعتبر أن عمله هذا بدعة‏» «المنتقى‏» (1/404).

    فأنت ناظر كيف أن الشيخ زاده الله تعالى توفيقا وتسديدا- غاير بين البدعة والمبتدعة، واعتبر النظر الشرعي وقدّمه، واعتبر أمر الاستبيان قبل استصدار الأحكام، ثم عذره لجهله مع اعتبار فعله بدعة.

    وأما قوله ‏«نحن نعامله معاملة المبتدع‏» فهذا سبق لسان أو بنان – إن صحّ عنه- بل نعامله كما ذكر الشيخ حفظه الله تعالى- بمقتضى العذر، وهو الإرشاد والنصح، إذ الخطأ في شريعتنا مرفوع وأثمه مدفوع.

    وأما النص الثالث: فيدور في فلك ما تقدمه: في فلك التفريق بين الإطلاق والتعيين، بل مع الوصية من عدم التسرع.

    وأما النص الرابع: وهو سؤال وجّه إلى الشيخ فالح – هداه الله تعالى- نصّه: يا شيخ إن الذي نعرفه من عقيدة أهل السنة والجماعة أن المعين لا يحكم بكفره إلا بعد قيام الحجة عليه، وأن تجتمع في حقه الشروط وتنتفي عنه الموانع، فهل المبتدع المعين نطبق عليه ما نطبق على الكافر المعين، وهل هذه عقيدة السلف، لأن بعض الشباب اللذين يكتبون في سحاب قد تبنوا هذه القاعدة فما هو جوابكم.

    الجواب‏: ‏«نصيحتى أن تحذروا أصحاب هذه القواعد وتحذروا منهم، إن الذي يقول أن المبتدع لا يبدع حتى تقوم عليه الحجة وتجتمع فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع هؤلاء هم الجهال المضللين، الذين يريدون أن تنتشر البدعة،وهذه قاعدة فاسدة باطلة منافية للشرع مخالفة لأصول أهل السنة، وعلى هذه القاعدة لا نبدع المبتدعة وتختلط البدعة بالسنة» انتهى.

    أقول: هذا قول فجّ من هذا الشتيم عفا الله تعالى عنه- وجهل مع تجهيل، وما كان ينبغي له ذلك، لا سيما وأنه في زحمة الإنكار لم يأت بدليل، وطرح بل بعثرت- الإلزامات الفاسدة هكذا!! نوع ظلم وتجني.

    وسيأتي معنا التدليل وبيان أصول أئمة أهل السنة المخالفة لقوله – عفا الله تعالى عنه- فهل يصحّ معها الطعن بالتجهيل والتضليل بل والتحذير؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

    أما قوله ‏«وعلى هذه القاعدة لا نبدع المبتدعة وتختلط البدعة بالسنة‏» فالجواب على الشيخ فالح الذي امتطى جواد النصح والتحذير ورفع لواء التجهيل والتضليل لمخالفه، هو عينه جواب الشيخ فالح، لنقف ويقف على صورة من التخبط وحقيقة أهله‏: «

    السائل: إذا لم يتيسر لقاء هذا المخطئ مع العالم ليقيم عليه الحجة، و استمر في باطله؟
    الشيخ: يحذر من باطله و يحذر من أخطائه و تسمى الأمور بمسمياتها إن كان بدعة فهي بدعة، إن كان معصية فهو معصية و هكذا وإن كان شرك و إن كان كفر فهو كفر و إن كان. ولكن لا يحكم عليه حتى تقام عليه الحجة إن كان ممن يحتاج إلى إقامة الحجة.‏».

    السائل: يعني التحذير لا يستلزم التبديع؟

    الشيخ: لا. لا يستلزم. لا يستلزم حنى التفسيق أو التضليل أو التخطئة حتى. لا يحكم عليه بشيء لا يقال له مثلا إن كان ما عمله كفر كافر، لا يقال له إن كان عمل بدعة مبتدع، لا يقال أنه إذا كان الذي عمله شرك أنه مشرك‏» http://alathary.net/vb2/showthread.php?t=5360

    وهذا الأخير من الشيخ فالح هو الحق المبين الموافق للنصوص والأصول وقول العدول، بقي غض الطرف عن تسرعه والدعاء له بالأوبة – هدانا الله تعالى وإياه وختم لنا بخير وتقبلنا وإياه في الصالحين.

    وعند ذكر التخبط، نستدعي نصح شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى‏: ‏«لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم‏» كتاب ‏«أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية‏» د.أحمد بن عبدالعزيز الحليبي هو من منشورات كتاب الأمة – وزارة الأوقاف – قطر – موجود على موقع أوقاف قطر.

    نذكر هذا، ونذكر معه قول شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى‏: «والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع‏».

    ويقول – رحمه الله تعالى‏: ‏«ولما كان أَتْبَاعُ الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنة، مع الكفار وأهل البدع، بالعلم والعدل لا بالظن وما تهوى الأنفس‏».

    ويقول – قدّس الله تعالى روحه‏: ‏«وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان: فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج عنها، ولو ظلمهم كما قال تعالى‏: «كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى”سورة”المائــدة‏» الآية(8) ويرحمــون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا‏» «أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية‏».

    بقي الدليل الأخير: وهو‏: ‏«سئل فضيلة الشيخ عبيد الجابري -حفظه الله تعالى- هل يلزم من كون الشخص ليس سلفي أنه مبتدع.

    أجاب الشيخ حفظه الله تعالى‏: ‏«حالان لا ثالث لهم، الشخص المنتسب للإسلام إما على السنة أو على البدعة، فإذا لم يكن سلفي فهو حتما مبتدع ولا محال‏».

    قلت: وهذا كلام يفتقر إلى السياق، وعلى كل حال فلا يخرج عن كلام سابقه، كما هو ظاهر حكم عام.

    وعليه: يظهر لكل عينين مبصرتين صحة القاعدة وفساد قول المعترض، والله تعالى الهادي.

  4. و «الظهور‏» أمر نسبي، و «المعلوم من الدين بالضرورة‏» أمر إضافي، و «لا يتصور‏» تحتاج حسن تصور، كل ما سلف يختلف الحكم فيها باختلاف الأشخاص والزمان والمكان، يفتقر إلى استبيان قبل استصدار الأحكام.

  5. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى‏: «… والإستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئ ضال، وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله ﷺ فهو أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها‏» «مجموع فتاوى شيخ الإسلام‏» (11/407) ففي كل جاءت (إن ) الشرطية الاستفسارية، اعتباراً للمقاصد في الأحكام، وإلا فيعد مخطئا بقول في هذه المسألة الظاهرة في نفسها ودليلها وليس مبتدعًا.

  6. في كتابيَّ ‏«شمس الحق الجلي تسطع على ليل الكوكب الدري‏» و «البيان البهي وانقشاع ظلمات الكوكب الدري‏».

  7. الراسخون من علماء الإسلام في القديم والحديث يفرقون بين حكم الفعل وحكم فاعله، والأصل في هذه العاصمة من قاصمة التكفير قصة الرجل الذي جلده النبي ﷺ في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر بجلده، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي ﷺ‏: ‏«لا تلعنه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله‏» «رواه البخاري‏» ح(780).

    فهذا رجل ينهى رسول الله عن لعنه، مع أنه ﷺ لعن شاربي الخمر كما في حديث أنس بن مالك‏: ‏«لعن رسول الله ﷺ في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له‏» رواه الترمذي ح(1295) ابن ماجة ح(3381) وأحمد في المسند ح(2892) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ح(2726) فشارب الخمر ملعون على لسان النبي ﷺ، بينما منع رسول الله ﷺ من لعن هذا المعين.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى‏: ‏«فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب، لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه لعن في الخمر عشرة. ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين، الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به‏» «مجموع الفتاوى‏» (10/329).

  8. فانظر كيف قرن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- بين الكفر والبدعة، وساقهما في سياق واحد، معتبرا فيهما جميعا الضابط الشرعي المتين– التفريق بين الإطلاق والتعيين- على حدّ سواء.

    أجل.. يشتركان– الكفر والبدعة- في الطعن في العقائد -على تفاوت- وقد يدخل الأول في الثاني، في دلالة على شمول مراعاة القيد – التفريق بين الإطلاق والتعيين.

  9. وسئل الشيخ الحافظ الحكمي –رحمه الله تعالى– في كتابه الماتع ‏« أعلام السنة المنشورة ‏« عن مهيّة البدع المكفرة؟

    فأجاب –رحمه الله تعالى: هي كثيرة، وضابطها: من أنكر أمراً مجمع عليه متواتر من الشرع معلوما من الدين بالضرورة؛ لأن ذلك تكذيب بالكتاب وبما أرسل الله رسله كبدعة الجهمية في إنكار صفات الله عز وجل وإنكار أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما وغير ذلك من الأهواء.

    ولكن هؤلاء منهم من عُلِم أن عين قصده هدم قواعد الدين وتشكيك أهله فيه، فهذا مقطوع بكفره بل هو أجنبي عن الدين من أعدى عدو له.

    وآخرون مغرورون ملبس عليهم فهؤلاء إنما يحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليه وإلزامهم بها » انظر كتاب ‏«أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة‏» ص(219).

  10. قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى‏: ‏«فإن الإمام أحمد ـ مثلا ـ قد باشر ‏[ ‏الجهمية‏ ]‏ الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات ـ الذين لم يوافقوهم علي التجهم ـ بالضرب والحبس والقتل والعزل على الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهميًا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، يحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئًا من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة، ولا فتيا ولا رواية‏؛ ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة، والافتكاك من الأسر وغير ذلك؛‏ فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه أو حبسوه.‏

    ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب‏.

    ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر.

    ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع‏» «مجموع الفتاوى‏» (3/127).

    قال جلال الدين السيوطي –عفا الله تعالى عنه‏: ‏«حكى أن رجلاً سأل مالكاً– رحمه الله تعالى- عمن يقول: القرآن مخلوق، وهو بمعنى الألفاظ المتلوة عند الأشعري كذلك، لكنه يوهم أنه من الاختلاق بمعنى الافتراء؟

    فقال الإمام مالك – رحمه الله تعالى: قائله كافر، فاقتلوه.

    وقد نهى عن هذا السلف؛ لأن ظاهره أنه ليس بكلام الله تعالى ففيه تعريض بتكذيب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.

    فقال ذلك القائل: إنما حكيته عن غيري، وحاكي الكفر ليس بكافر!

    فقال مالك: إنما سمعناه منك، فأنت متلبس بالحكاية لم لا يليق، يحتمل أنك تظهر به سريرة لك.

    وهذا المذكور عن مالك – رحمه الله تعالى- على طريق الزجر والتغليظ؛ بدليل أنه لم ينفذ قتله، أي: لم يحكم به حكماً قطعياً، فإن المذهب أنه لا يقتل مثله، وإنما يقتل من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة‏» «تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء لجلال الدين السيوطي ص(31-32) ط. الأولى 1423هـ مكتبة الصفا

    أي: يقتل بعد البيان، إذ المعلوم من الدين بالضرورو أمر نسبي، يختلف باختلاف الأشخاص والزمان والمكان، كما قرر ذلك شيخ الإسلام في ‏«مجموع فتاويه”.

    ومثل ما تقدم قول تلميذه الإمام الشافعي– رحمه الله تعالى- مع حفص الفرد وتعليق شيخ الإسلام هداية للأنام.

  11. وجاءت أمثال العرب قاضية بالاستفسار ومراعاة الحال والمآل قبل استصدار الأحكام، فمن ذلك قولهم‏: «العتاب قبل العقاب‏» يروى بالنصب على إضمار: استعمل العتاب. وبالرفع على أنه مبتدأ، يقول: أصلح الفاسد ما أمكن بالعتاب، فإن تعسر فبالعقاب.

    كما قالوا‏: «العاقل من يرى مقر سهمه من رميته‏» يضرب في النظر في العواقب‏» «مجمع الأمثال‏» للميداني.

  12. راجع أدلتي – مراعاة للمقام- مما دونته من كتب ورسائل.

    فمن قبيل الأول‏: «شمس الحق الجلي‏» و«البيان البهي‏» «وإتمام الحجاج وإقامة الاعوجاج».

    ومن قبيل الثاني‏: «العذر بالجهل‏» و«التبصرة ببيان تتمات المعذرة‏» و«إعلان الحرب على من اعتبر ديار لمسلمين ديار حرب‏» و‏ «الصارم المنكي‏» هذه المجموعة أما المبثوثة ففي جلّ ما كتبت.

  13. قال الخطيب البغدادي–رحمه الله تعالى-‏: ‏«فإن قيل: كيف يجوز أن يكون للمخطئ فيما أخطأ فيه أجر، وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد حتى أخطأ؟

    فالجواب: إن هذا غلط، لأن النبي ﷺ لم يجعل للمخطئ أجراً على خطئه، وإنما جعل له أجراً على اجتهاده، وعفا عن خطئه، لأنه لم يقصده» ‏«الفقيه والمتفقه‏» (1/191).

  14. ) قلت: ومع استصحابنا لهذا الإجماع المحتف بالأدلة والمكلل بالبراهين، نذكر ونذكّر متفقين ومجمعين على أن الردة حدّ من الحدود. وهذه حجة قاضية وقاطعة أيضاً، وقول فصل أيضاً قاض في المسألة، لقوم يعقلون.

  15. مثال ذلك: الضلال: في قوله تعالى في ‏«أم الكتاب‏»: ﴿ وَلاَ الضَّالِّين ﴾ في الكافرين اتفاقا.

    وقوله –صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-‏: ‏«كل بدعة ضلالة‏» ظاهر.

    وفي قوله تعالى‏: ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين ﴾ ‏«يوسف‏» الآية(8) أي انحراف عن الحق واضح.

    واتفاقا هذا لا يلزم منه ابتداعا ولا تكفير.

  16. ‏«لقد كان السلف الصالح يمتازون بمعاملتهم لأهل البدع بالشدّة والقسوة (وللمخالف أحياناً) وكانوا يعدون هذه الشدة على أهل الأهواء والبدع من المناقب والممادح التي يمدح بها الرجل عند ذكره، فكم من إمام في السنّة قد قيل في ترجمته مدحاً له كان شديداً في السنّة، أو كان شديداً على أهل الأهواء والبدع.

    وما كان باعثهم على هذه الشدّة إلا الغيرة والحميّة لهذا الدين، والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

    كما قال ابن الجوزي عن الإمام أحمد –رحمه الله تعالى‏: «وقد كان الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل لشدة تمسكه بالسنّة ونهيه عن البدعة يتكلم في جماعة من الأخيار إذا صدر منهم ما يخالف السنّة، وكلامه ذلك محمول على النصيحة للدين‏» «مناقب الإمام أحمد‏» ص (253).

    قال العلامة ابن القيّم – رحمه الله تعالى‏: «ومن تأمل أحوال الرسل مع أممهم؛ وجدهم كانوا قائمين بالإنكار عليهم أشدّ قيام حتى لقوا الله تعالى، وأوصوا من آمن بهم بالإنكار على من خالفهم وأخبر النبي ﷺ أنّ المتخلّص من مقامات الإنكار الثلاثة ليس معه من الإيمان حبّة خردل، وبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشدّ المبالغة، حتى قال‏: ‏«إن الناس إذا تركوه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده‏» «مدارج السالكين‏» (3/123).

    والصحابة (قد واجهوا البدع وأهلها بشدّة، فقمعوها وتبرءوا من أهلها، وذلك واضح جلي لمن تدبّر سيرتهم، وعرف أخبارهم. ولكن ينبغي التنبيه على أن هذه الشدة على المخالفين التي كان يمتاز بها هؤلاء الأئمة، لا تعني أنهم كانوا على أخلاق سيئة أو دنيئة بل كانوا يتحلون بالأخلاق الكريمة والخصال الحميدة من الصبر والحلم والأناة والصدق والورع وغير ذلك، ولكنهم رأوا أن هذا المقام يحتاج لمثل هذه الشدة لقمع هؤلاء المبتدعة لا سيما الدعاة منهم، وصرف بدعهم عن الناس، وما ذلك إلا لعلمهم بخطر تلك البدع، وما تؤدي إليه أحياناً من الكفر والزندقة، وكل ذلك راجع إلى حكمة الداعي وفقهه في المعاملة‏» بتصرف من كتاب ‏«إجمــاع العلمـاء على الهجـــر والتحذير من أهل الأهواء‏» لخَالد بن ضَحَوي الظَّفيري- زاده الله تعالى توفيقاً- تقـــديم: فضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، فضيلة الشيخ زيد بن محمد المدخلي، فضيلة الشيخ عبيد الجابري -حفظهم الله تعالى-.

  17. وفي ص(608) ذكر منهم الإمام أحمد– رحمه الله تعالى- وحاول الاعتذار، وفي ص(612) أخذ– أي الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-عن رأس في الإرجاء وعلل (المسود) ذلك بقوله‏: «غير داعية‏» وحاول المسود الاعتذار أيضاً بـ ‏«ربما‏» ثم بعدها يخالفه المسود بقوله ‏«كان داعية‏» وفي ص(627)و(630) اعتذر عنه بأنه لم يكن يعلم‏» وفي ص(609) كذلك عن الثوري -رحمه الله تعالى- وغيرهما. وتبحث في زحمة هذا التناقض والتعارض عن أصوله فلا تراها وتستدعي قواعده فلا مجيب وتفتش عن ضابط فلا تجد.

  18. قال التاج السبكي – رحمه الله تعالى‏: «ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع جميع الأئمة الماضين، ولا تنظر في كلام الناس فيهم إلا ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن بحسب قدرتك، فافعل وإلا فاضرب صفحاً عما جرى بينهم‏» «الكواكب الدرية‏» ص(235).

  19. أقول: ما شاء الله. ما شاء الله، انظر كلام السلف كم عليه من أنوار الهداية وآيات التسديد وبراهين التوفيق، نعم. في قوله – رحمه الله تعالى- حق ورحمة.

    أما الحق: فوصفه لحالهم.

    وأما الرحمة: فالإيماءة لضرورة عذرهم لجهلهم.

    وفي زماننا يُنصح القطبيُ التكفيريُ فيصرخ أنه ليس بتكفيري، بل وأنه ردّ على ‏«التكفير والهجرة‏» وما علم المسيكين أن التكفير دركات، وهكذا صنع الكاتب في تعليقاته غير أنه سكت عن التكفيري، وأثنى على ما توجب عليه مفردات معتقده تكفيره، إصراراً وعناداً، بعد البيان والاستدلال، هدى الله الجميع.